الدكتور عبد الله النفيسي يشرح النظام الدولي شرحًا تفصيليا
النظام الدولي وأدوات الهيمنة: قراءة تحليلية معمّقة
نحن لا نعيش في فراغ، بل ضمن منظومة محكمة تُسمّى «النظام الدولي»، الذي يُشكّل الإطار المرجعي الأكبر الذي تتفاعل ضمنه الدول، شعوبًا وحكومات، ويتحدد من خلاله موقع كل دولة على خارطة النفوذ والقوة. هذا النظام ليس عشوائيًا ولا حياديًا كما قد يُصوَّر في بعض الأدبيات السطحية؛ بل هو بنية معقّدة تقوم على تقسيم العالم إلى مركز وأطراف، مركز يحتكر القوة ويمارس الهيمنة، وأطراف تظل تحت مظلة التبعية والاستضعاف. ويأتي في قلب هذا النظام تحالف الدول المركزية، التي تمثلها في العصر الحديث الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، واللتان تديران المشهد الدولي بأبعاده العسكرية، الاقتصادية، السياسية، والثقافية.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتكريس نظام بريتون وودز، بدأت تتضح معالم النظام الدولي الجديد، حيث تم فرض السيطرة الغربية على مفاصل الاقتصاد العالمي، وربطت معظم دول الأطراف بأسواق الدول المركزية من خلال أدوات معقدة تبدأ من التحكم في الصناعات الثقيلة والسلاح، ولا تنتهي عند فرض سياسات غذائية واقتصادية تجعل من الاكتفاء الذاتي حلمًا بعيد المنال.أولى أدوات الهيمنة التي تستخدمها الدول المركزية هي احتكار السلاح. هذا الاحتكار لا يقتصر فقط على إنتاج الأسلحة المتطورة وبيعها، بل يتعدى ذلك إلى خلق بيئات صراع مستدامة تضمن استمرار الطلب على السلاح وتجعل الدول الطرفية أسيرة لهذه الدوامة. اليمن، على سبيل المثال، تُعتبر نموذجًا حيًّا لهذا الاحتكار، حيث يُدار النزاع بأسلحة تُباع وتُدار من قبل دول المركز، ما يجعل القرار السيادي مرتهنًا دومًا لموردي السلاح الكبار.
الأداة الثانية تتمثل في احتكار الموارد الطبيعية، وبالأخص النفط والقمح. تتحكم الدول المركزية عبر شركات عملاقة – مثل الشقيقات السبع في مجال النفط – في إنتاج وتصدير هذه المواد الحيوية. أي محاولة جادة من دول الأطراف للاستقلال الغذائي أو الطاقوي تُقابل بضغوط سياسية واقتصادية هائلة. المثال التاريخي الذي أبرزه النص الأصلي هو مبادرة المملكة العربية السعودية في سبعينيات القرن العشرين لزراعة القمح، والتي واجهت معارضة شديدة من الولايات المتحدة على لسان وزير خارجيتها الأسبق هنري كيسنجر، مما يكشف حجم الحساسية التي تُبديها الدول المركزية تجاه أي محاولة للخروج عن قبضة التبعية الاقتصادية.
الأمم المتحدة تمثل الأداة الثالثة لهذه الهيمنة. فهي، رغم خطابها الحيادي ومظهرها كمنظمة دولية تسعى لتحقيق السلام، ليست سوى ذراع سياسية تستخدمها الدول المركزية لفرض أجنداتها على الدول الضعيفة. في الحالة اليمنية، يتجلى هذا الأمر بوضوح من خلال تعاطي مبعوثي الأمم المتحدة مع الأزمة اليمنية بطريقة تُكرّس مصالح دول المركز أكثر مما تسعى فعلاً إلى حل النزاع. الأسماء تتغير – من جمال بن عمر إلى إسماعيل ولد الشيخ – لكن الدور يبقى هو نفسه: إدارة الأزمة بما يضمن استمرار الوضع الراهن الذي يخدم مصالح الدول الكبرى.
أما الأداة الرابعة فهي السيطرة الثقافية والإعلامية، التي تُساهم في تشكيل وعي الجماهير وفق رؤية تخدم مصالح المركز. الإعلام العالمي الموجّه، الإنتاج الثقافي، وحتى المناهج التعليمية، كلها أدوات توظَّف لإعادة إنتاج ثقافة التبعية وترسيخ صورة نمطية عن «عجز» دول الأطراف عن إدارة شؤونها دون وصاية خارجية.كل هذه الأدوات تتشابك بطريقة معقدة لتخلق نظامًا دوليًا بالغ القوة والمرونة في الوقت نفسه، ما يجعل من الصعب كسره أو تجاوزه دون تغييرات بنيوية عميقة. السياقات التاريخية من فيتنام إلى العراق، ومن سوريا إلى اليمن، تؤكد أن النظام الدولي لا يتغير إلا عندما تفرض عليه القوى الطرفية واقعًا جديدًا بفعل إرادة شعوبها وقياداتها، وهو أمر محفوف بالمخاطر لكنه ليس مستحيلاً.
في الختام، يظل الوعي بهذه المنظومة وآلياتها الخطوة الأولى نحو بناء استراتيجية مقاومة فعّالة. المطلوب ليس فقط فهم «كيف» يعمل النظام الدولي، بل «لماذا» هو مصمم بهذا الشكل، وكيف يمكن لدول الأطراف أن تخلق هامشًا للمناورة وسط هذه الشبكة المحكمة من السيطرة والهيمنة. إن تحرير القرار السيادي وتحقيق التنمية المستقلة لا يمكن أن يتحققا إلا إذا بدأنا أولاً بتفكيك الأساطير التي تغلّف هذا النظام ونزع الهالة الزائفة عن أدواته المختلفة، لنكشف وجهه الحقيقي كمنظومة قمع واستغلال مقنّنة ومتجددة.