تحوّلات النظام العالمي: عام تقرير المصير على الكوكب
منذ أن دخل العالم العقد الثالث من الألفية الجديدة، تعاظمت التحديات وتكثفت الأحداث التي تشير بوضوح إلى أننا نشهد تغيرًا جذريًا في النظام العالمي القائم منذ نهاية الحرب الباردة. ومع حلول عام 2024، بلغ هذا التحول ذروته، حيث أصبح هذا العام نقطة مفصلية في تحديد مستقبل العلاقات الدولية والتوازنات الجيوسياسية. إنه عام الانتخابات الكبرى، حيث يتوجه أكثر من نصف سكان الكوكب إلى صناديق الاقتراع، في واحدة من أكثر اللحظات أهمية في التاريخ المعاصر. ولعل أبرز هذه الاستحقاقات يتمثل في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة وروسيا، الدولتين اللتين تتحكمان بشكل مباشر أو غير مباشر في موازين القوة العالمية.
لا يمكن الحديث عن ملامح النظام العالمي في 2024 دون الغوص عميقًا في فهم تأثير تلك الانتخابات، ليس فقط بوصفها استحقاقات داخلية، بل باعتبارها أدوات لإعادة رسم خارطة الهيمنة العالمية وتحديد شكل القيادة السياسية والعسكرية والاقتصادية للعالم في العقد المقبل. في هذا المقال، نحلل بدقة هذه الانتخابات المحورية وسياقاتها المختلفة، مع التوقف عند أهم انعكاساتها على النظام العالمي متعدد الأقطاب.
بوتين: الرجل الذي يريد أن يعيد تشكيل العالم
في موسكو، يدخل فلاديمير بوتين عام 2024 وهو يسعى لتأمين ست سنوات أخرى في السلطة، بعدما قضى ما يزيد عن عشرين عامًا زعيمًا فعليًا لروسيا. لم يكن تعديل الدستور الروسي عام 2020 حدثًا عابرًا، بل كان خطوة محسوبة بعناية لتأمين مستقبل سياسي طويل لبوتين، يُبقيه في سدة الحكم حتى 2036، ما يجعله من بين الزعماء الأكثر بقاء في السلطة في التاريخ الحديث، حتى بالمقارنة مع جوزيف ستالين.
لكن طموحات بوتين تتجاوز مجرد البقاء في الكرملين. فهو يريد أن يصنع نظامًا عالميًا جديدًا يُنهي ما يسميه بـ"الهيمنة الأحادية الأمريكية"، ويُعيد لروسيا موقعها كقوة عظمى مؤثرة في الشؤون الدولية. ومن هذا المنظور، جاءت حرب أوكرانيا، لا كمجرد نزاع إقليمي، بل كجزء من مشروع استراتيجي أوسع يهدف إلى إعادة تشكيل التوازنات العالمية، وكسر شوكة الناتو، وردع التوسع الغربي باتجاه الشرق.
ورغم الفشل النسبي في حسم الحرب في أوكرانيا، لا تزال ماكينة النظام الروسي تعمل على إعادة إنتاج رمزية بوتين بوصفه المدافع عن روسيا الكبرى. لكن هذه الرمزية أصبحت في مرمى التحدي الداخلي والخارجي. فالمعارضة تم تقزيمها، وكبار المنافسين السياسيين تم تهميشهم أو سجنهم أو اغتيالهم بطرق مباشرة أو غير مباشرة، كما حصل مع يفغيني بريغوجين، قائد مجموعة فاغنر، أو أليكسي نافالني، المعارض الأشهر، أو حتى القومي المتشدد إيغور غيركن، الذي أعلن نيته الترشح للرئاسة قبل أن يُزج به في السجن.
في هذا السياق، تبدو الانتخابات الروسية وكأنها استفتاء على شرعية بوتين أكثر من كونها منافسة ديمقراطية حقيقية. ومع ذلك، فإن النظام السياسي الروسي، وإن بدا صلبًا من الخارج، ليس بمنأى عن الانشقاقات الداخلية. فالنخبة الاقتصادية، التي نشأت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تعيش حالة من الانقسام إزاء جدوى السياسات الخارجية التصادمية التي انتهجها بوتين. تلك النخبة التي كانت المستفيد الأول من الانفتاح على الغرب تجد نفسها اليوم محاصَرة بالعقوبات ومهددة بخسارة استثماراتها الدولية.
إذن، فإن التحدي الحقيقي لبوتين في 2024 ليس في صناديق الاقتراع، بل في قدرته على الحفاظ على وحدة السلطة وتماسك النظام السياسي والاقتصادي في ظل ظروف داخلية متدهورة وتحديات خارجية غير مسبوقة.
ترامب وبايدن: العجوزان والبيت الأبيض
على الجانب الآخر من الأطلسي، يستعد الأمريكيون لما يُتوقع أن يكون واحدًا من أكثر الانتخابات الرئاسية جدلاً في تاريخ الولايات المتحدة. فالمعركة المنتظرة بين الرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن وسلفه الجمهوري دونالد ترامب ليست مجرد منافسة على رئاسة بلد، بل هي اختبار حقيقي لمسار القوة الأعظم في العالم.
بايدن، الذي سيبلغ من العمر 86 عامًا إذا استُكملت ولايته الثانية، يعاني من تراجع في شعبية بسبب زلاته الكلامية وضعف أدائه العام، وهو ما جعل قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي تعتقد بعدم أهليته للاستمرار. لكن بالمقابل، فإن ترامب، الذي يواجه عشرات الدعاوى القضائية والاتهامات الجنائية، لا يبدو بديلاً مثاليًا، وإنْ كان لا يزال يحتفظ بشعبية جارفة داخل الحزب الجمهوري.
هذه الانتخابات تعكس انقسامًا عميقًا في المجتمع الأمريكي بين اليمين الشعبوي الذي يدعو إلى عودة "أمريكا البيضاء القوية"، وبين التيارات اليسارية التقدمية التي تسعى إلى مزيد من العدالة الاجتماعية والانفتاح. وقد أصبح الناخب الوسطي، الذي لم يحسم أمره، هو الفئة المرجحة في هذا الصراع.
لكن بعيدًا عن الديناميكيات الداخلية، فإن السياسة الخارجية ستلعب دورًا حاسمًا في هذه الانتخابات. بايدن سيواصل حملته على أساس ردع روسيا ودعم أوكرانيا وتقوية الناتو، بينما من المرجح أن يعيد ترامب تموضع أمريكا في مواجهة الصين، ويخفف لهجته تجاه موسكو. كلاهما، في النهاية، يسعى إلى إعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية، ولكن بأسلوب مختلف: بايدن عبر التحالفات التقليدية والمؤسسات متعددة الأطراف، وترامب عبر نهج أكثر فردية وتصادمية.الهند وأوروبا ومراكز القوى الجديدة
ليست الولايات المتحدة وروسيا وحدهما من ستعيدان تشكيل النظام العالمي في 2024. ففي الهند، يستعد ناريندرا مودي للفوز بولاية ثالثة، معتمدًا على القومية الهندوسية وتهميش الأقلية المسلمة، وهو ما يعزز الاتجاه نحو دولة ذات طابع أيديولوجي مغلق، رغم نموها الاقتصادي السريع.
وفي أوروبا، يخوض أكثر من 400 مليون ناخب في 27 دولة انتخابات البرلمان الأوروبي، في اختبار لقوة التيارات اليمينية الشعبوية التي صعدت في السنوات الأخيرة. وإذا ما واصلت هذه القوى تقدمها، فإن ذلك سيؤدي إلى تغيير جذري في سياسات الاتحاد الأوروبي، خاصة فيما يتعلق بالهجرة، والسيادة الوطنية، والعلاقة مع روسيا وأمريكا.
أما في مصر، فرغم تعدد المرشحين، فإن فوز عبد الفتاح السيسي يبدو مضمونًا، ما يعكس طبيعة الانتخابات في عدد من الدول النامية التي تدار بعقلية شبه استبدادية. هذه النماذج، وإن كانت لا تؤثر كثيرًا في ميزان القوى العالمي، إلا أنها تعكس استمرارية لنموذج الحكم السلطوي في العالم، خاصة مع تراجع الموجات الديمقراطية.
ملامح النظام العالمي الجديد: تعددية أم فوضى؟
إذا جمعنا كل هذه الاستحقاقات والتحولات، فسنجد أن العالم مقبل على مرحلة جديدة من إعادة توزيع النفوذ. فالولايات المتحدة، وإن كانت لا تزال القوة العظمى الوحيدة، إلا أن صعود الصين، وعودة روسيا، وتنامي نفوذ القوى الإقليمية مثل الهند وتركيا والبرازيل، يشير إلى ولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب.
لكن هذه التعددية لا تعني بالضرورة استقرارًا أو تعاونًا. بل قد تؤدي إلى تصاعد النزاعات الإقليمية والحروب بالوكالة، خاصة مع تصاعد الشعبوية وضعف المؤسسات الدولية. وقد نشهد عالماً تحكمه القوى العسكرية والاقتصادية بلا رادع أخلاقي أو قانوني، وهو ما يجعل مستقبل الأمن الجماعي في مهب الريح.
النظام العالمي في 2024 ليس ما كان عليه في 2020، ولا حتى في 2023. إنه عالم جديد يتشكل، عالم تحكمه التناقضات بين القومية والانفتاح، بين الهيمنة والتعدد، بين العسكر والديمقراطية. وأمام هذا المشهد المعقد، تبقى الانتخابات في روسيا وأمريكا مؤشرين مركزيين لفهم ما سيكون عليه هذا النظام خلال العقد المقبل.إن هذا العام، بكل أحداثه وتحولاته، ليس مجرد لحظة انتخابية، بل هو لحظة تقرير مصير للبشرية جمعاء. العالم يقف على مفترق طرق، وما تُقرره الشعوب اليوم سيصوغ شكل الغد.