random

منشورات

random
جاري التحميل ...

الهند وباكستان: حين يصبح الردع النووي مرآة لخراب النظام العالمي

الهند وباكستان: حين يصبح الردع النووي مرآة لخراب النظام العالمي


حين يصبح الردع النووي مرآة لخراب النظام العالمي


في بقعةٍ ما من العالم، حيث تتعانق قمم الهملايا بالغيوم وتنزف الأرض من جراح لا تندمل، تتربص واحدة من أخطر النزاعات السياسية في التاريخ الحديث، لا لأنها نزاع حدودي تقليدي، بل لأنها تحمل في طياتها إمكانية الانفجار النهائي. الهند وباكستان، دولتان خُلقتا من رحم الانقسام، وجُعل بينهما إقليمٌ كشميري يمورُ بالألم والانتماء المزدوج، يشتعل كلما ظن العالم أن الجمر قد خمد. هنا، لا تُقاس الحروب بعدد القتلى ولا الخرائط، بل بظل الفناء النووي الذي يخيّم على كل قرار.

منذ اللحظة الأولى لاستقلال شبه القارة الهندية في عام 1947، كانت كشمير نقطة البدء، لا في الحرب فحسب، بل في معمار التوجس. بريطانيا، بسلطانها الاستعماري المنسحب، خلفت وراءها إقليماً ذا أغلبية مسلمة، تحت حكم مهراجا هندوسي، تائه بين خيارَي الانضمام إلى الهند أو باكستان. اختار الحاكم الهند، فاختارت الجغرافيا الدم، وكانت الحرب الأولى. منذ ذلك اليوم، لم تكن الحدود خطوطاً على الورق، بل جراحاً مفتوحة تنزف ببطء، وتكبر مع الزمن، وتتبدل أشكالها من حروب تقليدية إلى أزمات نووية، لا تسعى لحسم، بل لترسيخ الخوف.

الحروب التي تلت – في 1965، ثم 1971، فحرب كارجيل عام 1999 – لم تكن مجرد مواجهات عسكرية، بل محطات على درب التحول المرعب للصراع. ومع كل جولة، كانت المعادلة تزداد هشاشة. غير أن عام 1998 شكّل نقطة اللاعودة، حين أجرت الهند ثم باكستان تجاربهما النووية، معلنتين انضمامهما إلى نادي الرعب الكوني. منذ تلك اللحظة، تحوّل السلاح النووي من رادع نظري إلى عنصر حاسم في كل حساب استراتيجي، لا لقدرته التدميرية فحسب، بل لرمزيته كقوة سيادية مطلقة.

الهند، بما تمتلكه من عمق جغرافي ووزن ديموغرافي، تبنّت عقيدة "عدم الاستخدام أولاً"، لكنها أبقت الباب موارباً باستثناءات غير واضحة، وكأنها تقول إنها مسالمة... إلا إذا اضطرت. أما باكستان، التي تدرك اختلال موازين القوى التقليدية، فقد اختارت فلسفة الردع المسبق: ضربة نووية أولى، حتى في حال غزو تقليدي قد يهدد وجودها. هكذا وُلد مفهوم الردع التكتيكي، حيث لا يعود السلاح النووي أداة تدمير شامل فحسب، بل وسيلة نفسية لشلّ قرار العدو وخلق حالة رعب دائم على المستوى العملياتي.

ومن هنا، تبدأ معضلة الردع النووي الهندي الباكستاني. فبدلاً من أن يضمن السلام، أصبح أداة تأجيل. كل حادثة قصف، كل اشتباك على خط السيطرة، كل خطأ استخباراتي، قد يشعل النار التي لا تُطفأ. كيف يمكن لعقل بشري، مهما بلغ من حكمة، أن يطمئن في ظل غياب قنوات تواصل فعّالة، واتفاقيات نزع سلاح، وأطر قانونية رادعة؟ نحن أمام حالة ردع قائمة على الخوف المتبادل، لا على الثقة أو الضمانات، مما يجعلها قابلة للانفجار بأدنى خلل في الحسابات.

وما يزيد المعادلة هشاشة هو الفارق البنيوي في إدارة الترسانة النووية لدى الطرفين. ففي حين تعتمد الهند منظومة مدنية صارمة، تفصل القرار السياسي عن السلاح ذاته، تدار القدرات النووية الباكستانية تحت إشراف المؤسسة العسكرية بشكل مباشر، بل ويُعتقد أن بعضها في حالة جاهزية دائمة. وهذا الفارق ليس تفصيلاً تقنياً، بل خطر استراتيجي حقيقي، إذ إن مركزية القرار النووي في يد العسكر تُسهل الانزلاق نحو التصعيد غير المحسوب، خصوصاً في لحظات الأزمة الداخلية التي تبحث عن "عدو خارجي" لتوحيد الصفوف.

اليوم، ونحن نقترب من منتصف عام 2025، عاد التصعيد ليطلّ برأسه الدموي من جديد. قصف مدفعي هندي لمناطق باكستانية في كشمير أودى بحياة مدنيين، وإسلام آباد توعدت بالرد "في الزمان والمكان المناسبين". تكرارٌ مألوفٌ للغة التهديد، لكن ما يثير القلق هو تغير السياق. في الهند، يتصاعد الخطاب القومي بوتيرة غير مسبوقة، حيث أصبح استخدام كشمير أداة تعبئة سياسية داخلية. وفي باكستان، تتداخل الأزمة السياسية مع اهتزاز العلاقة بين المؤسسة العسكرية والحكومة، مما يجعل توجيه الغضب نحو "العدو التقليدي" وسيلة إنقاذ مواتية.

فإذا كانت كل حرب تبدأ بخطأ، فإن السيناريوهات المطروحة بين الهند وباكستان لا تخلو من احتمالات ذلك الخطأ القاتل. الضربة النووية التكتيكية الباكستانية، أو الرد الهندي الشامل، أو حتى التصعيد البطيء من مناوشات إلى هولوكوست، كلها سيناريوهات مطروحة على الطاولة النووية. والأسوأ من ذلك: سيناريو الحرب الناتجة عن خطأ في التقدير أو قراءة خاطئة لحركة صاروخ.

وما بين تلك السيناريوهات، تتجلى حقيقة مريرة: الردع النووي ليس ضمانة أبدية، بل قنبلة موقوتة. وهو لا يمنع الحرب، بل يغيّر شكلها، ويجعل من كل قذيفة مدفع على الحدود احتمالاً لانفجار شامل. فالفناء النووي لم يعد وهماً سينمائياً، بل احتمالاً واقعياً، يدرس في معاهد السياسة الدولية، ويُناقش في الكواليس الدبلوماسية المغلقة، لكن من دون أن يُمنع حقاً.

ولعل أخطر ما في هذا الصراع أنه لا يعكس أزمة إقليمية معزولة، بل يكشف انهيار النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. ذلك النظام الذي بُني على احتواء القوة النووية عبر معاهدات رقابة وضبط تسلح وتوازنات دولية صارمة، تآكل تدريجياً، حتى باتت دول كالهند وباكستان، بل وإسرائيل وكوريا الشمالية، تتصرف خارج قواعده، من دون عقاب أو تدخل. لم يعد العالم مركزياً كما كان، بل بات فسيفساءً من القوى الصاعدة التي تقرر مصيرها، ولو كان المصير ناراً.

ووسط هذا الانهيار، تتشابك المصالح الدولية في صراع كشمير. فالصين، التي ترى في باكستان حليفاً استراتيجياً لموازنة الهند، لا تقف مكتوفة اليدين. والولايات المتحدة، التي ترى في الهند قوة مضادة لطموحات بكين، تسكت أحياناً وتراهن أحياناً أخرى. هكذا تصبح الأزمة المحلية بوابة لتصفية حسابات كبرى، بينما تظل الجماهير على الطرفين أسرى الخطاب القومي، والإعلام المتشنج، والعداوات المتوارثة.

في الختام، يبدو أن السؤال الحقيقي لم يعد: "هل تقع الحرب النووية؟"، بل "متى يتجاوز الخطأ البشري العتبة الأخيرة؟". لقد فشلت البشرية في بناء نظام يمنع الانتحار الجماعي. وكل مرة ينجو فيها العالم من المواجهة النووية بين الهند وباكستان، لا تكون نجاة نهائية، بل تأجيلاً للكارثة. إن الردع النووي ليس سلاماً، بل توازناً على حافة الجحيم، والعالم اليوم، بكل مؤسساته المتهاوية، يبدو عاجزاً عن إنقاذ نفسه من نفسه.

عن الكاتب

Guest

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

الواقع الإفتراضي