random

منشورات

random
جاري التحميل ...

حين انكسرت الجغرافيا واشتعلت الذرّة: مارس الأسود في وعي الأمة الباكستانية

 حين انكسرت الجغرافيا واشتعلت الذرّة: مارس الأسود في وعي الأمة الباكستانية


مارس الأسود في وعي الأمة الباكستانية

في خضم تقلبات القرن العشرين، لم يكن الشرق الأوسط وحده مسرحًا لانهيارات الخرائط وانبعاث الهويات. بل إن جنوب آسيا شهد، في عام 1971، واحدة من أكثر اللحظات اشتعالًا في التاريخ الحديث: لحظة تفتت باكستان إلى نصفين، ولادة بنغلاديش من رحم الدم والمأساة، وانبثاق مشروع الردع النووي الباكستاني كصرخة قومية لا تعرف النسيان. لم يكن "مارس الأسود" في التاريخ الباكستاني مجرد شهر تخللته أحداث سياسية متسارعة، بل كان نقطة انعطافٍ تشكل فيها وعي أمة جديدة من رماد أمة سابقة، وانبثقت الأسئلة الكبرى عن الهوية، العدالة، اللغة، والانتماء، من شقوق الجدران القديمة التي بنتها القومية الدينية.

حين انفصلت باكستان عن الهند في عام 1947، حمل الانفصال وعدًا بدولة للمسلمين، دولة تتجاوز العرق واللغة وتُوحّد أبناء الدين الواحد. لكنّ هذا الحلم الإسلامي اتّكأ على أساس هشّ من التجانس المتخيّل. فالدولة الوليدة تكوّنت من جناحين متباعدين جغرافيًا: شرق باكستان، حيث الغالبية البنغالية ذات الثقافة واللغة الخاصة، وغرب باكستان، حيث النخب التي سيطرت على الدولة والجيش. وبين الطرفين، بحرٌ من المسافات المادية والرمزية، لا يصلح لجسر هوية موحدة، بل أشبه بفخ جغرافي سيبتلع في نهاية المطاف حلم الدولة ذات الرأسين.

اللغة كانت أول رمح يُغرس في خاصرة الوحدة. أصرّ مؤسس الدولة، محمد علي جناح، أن تكون الأردية هي اللغة الرسمية الوحيدة، متجاهلًا أن البنغالية كانت لسان أكثر من نصف السكان. لم يكن هذا مجرد نزاع لغوي، بل تمظهرًا لمشروع استعلائي صامت، أراد أن يفرض هوية ثقافية على أخرى، باسم وحدة دينية افتراضية. كان الرفض البنغالي حاسمًا، وسرعان ما تحوّل إلى حركات احتجاجية ثم مقاومة سياسية. ولكن حتى بعد وفاة جناح، ظلّت النخب العسكرية والإدارية في غرب باكستان تتعامل مع الشرق كملحق خاضع، لا كشريك متكافئ.

عندما نتأمل مجريات العقدين التاليين، نرى طبقة سياسية متسلطة، حكمت بقبضة عسكرية منذ أواخر الخمسينيات بقيادة الجنرال أيوب خان، ثم خليفته يحيى خان. كان النظام يُحكم بقوانين الطوارئ، وأي مظاهر للاحتجاج تُواجَه بالقمع. لكن بنغلاديش – أو شرق باكستان آنذاك – كانت تغلي تحت سطح الدولة، مطالبة بعدالة توزيع الثروات، خصوصًا أن الاقتصاد كان يعتمد في غالبه على الإنتاج الزراعي للشرق، فيما كانت عوائد السلطة مركّزة في الغرب.

وجاء عام 1970 حاسمًا. سمح الجنرال يحيى خان لأول مرة بانتخابات عامة، ففاز حزب "رابطة عوامي" بقيادة مجيب الرحمن بأغلبية برلمانية ساحقة. حصل على 167 من أصل 169 مقعدًا مخصصًا للشرق، ليمنحه ذلك حق تشكيل الحكومة الباكستانية كاملة. لكنّ ما بدا انتصارًا ديمقراطيًا انقلب إلى مأساة، إذ رفضت النخب في إسلام أباد قبول هذه النتائج، وبدأ التلاعب والتأجيل في افتتاح البرلمان. لم يكن الرفض مجرّد تكتيك سياسي، بل انكشافًا لهشاشة الدولة أمام الانقسام القومي.

في 7 مارس 1971، خرج مجيب الرحمن في خطاب جماهيري هو الأكبر في تاريخ البنغال، أعلن فيه، بصيغة مضمرة، نهاية التبعية. كان خطابًا يحمل كل إشارات القطيعة، ففهمت إسلام أباد الرسالة جيدًا، وردّت بحملة عسكرية عُرفت بعملية "بحث ضوء"، والتي تحوّلت إلى مجازر جماعية، واجتياح دموي للمدن البنغالية. لم يكن ما جرى مجرد قمعٍ لتمرّد، بل حرب إبادة مصغرة، اختلط فيها الانتقام السياسي بالتطهير العرقي، وتفاقمت فيها المأساة الإنسانية إلى حدّ نزوح أكثر من 10 ملايين شخص نحو الهند.

في هذا السياق المأساوي، أصبح الصراع البنغالي-الباكستاني حربًا بالوكالة بين القوى العظمى في قلب الحرب الباردة. كانت الولايات المتحدة تقف مع باكستان حليفها القديم، بينما ساند الاتحاد السوفيتي الهند، التي بدورها دعمت بنغلاديش الناشئة. أما الصين، فكانت مع باكستان كجزء من عدائها التاريخي مع الهند. وبذلك، عُطلت أي إمكانية حقيقية لتدخل أممي إنساني. وبدلاً من ذلك، قررت الهند التدخل عسكريًا مباشرة في ديسمبر 1971، لتقلب موازين الحرب، وتفرض على القوات الباكستانية في داكا الاستسلام الكامل، مخلّفةً واحدة من أكبر عمليات الأسر في التاريخ، حيث وقع أكثر من 93 ألف جندي باكستاني في قبضة القوات الهندية والبنغالية.

لكن ما تلا الاستسلام كان الأهم في صياغة الوعي القومي الباكستاني الحديث. كانت الهزيمة إذلالًا قوميًّا غير مسبوق. رأى فيها الباكستانيون خيانة من نخبهم، واستهتارًا بكرامة الدولة، وتهديدًا لوجودها. وُلِد من هذا الإذلال سؤال مركزي: كيف لدولة إسلامية أن تنهار بهذه الطريقة؟ وجاء الرد من خلال ما يشبه "العهد الوطني": لن تُهان باكستان مجددًا. وهنا، دخلت البلاد مرحلة إعادة تشكيل ذاتها كقوة ردع لا يُستهان بها، وبدأت رحلتها نحو تصنيع القنبلة النووية، بإشراف مباشر من زعيمها الجديد آنذاك، ذو الفقار علي بوتو.

لم يكن القرار النووي قرارًا علميًا فحسب، بل خيارًا وجوديًا. لقد أصبح "السلاح الذري" تجسيدًا لشرف الأمة، بل ردًا ضمنيًا على مشهد الاستسلام المهين عام 1971. في السنوات التالية، ورغم التحديات السياسية والاقتصادية، واصلت باكستان بناء ترسانتها النووية بصمت، حتى أعلنت عنها رسميًا في نهاية التسعينيات، مؤكدة أنّ "مارس الأسود" لم يكن مجرد هزيمة، بل بعثًا نوويًا جديدًا.

وهكذا، أصبح عام 1971 نقطة انكسار وبداية في آن واحد. انكسرت باكستان جغرافيًا، لكنّها أعادت صياغة هويتها من رماد الخسارة، وبنت قوتها على جراحها. إنها قصة أمة تعلمت، رغم ثقل المأساة، أن التاريخ لا يرحم من لا يصنع موازين القوة. لكنها في ذات الوقت تطرح علينا، نحن المراقبين، سؤالاً حرجًا: هل تُبنى الهويات الوطنية على الذرّة، أم على العدالة؟ وهل الردع وحده كافٍ لبناء السلام الداخلي؟ أم أنّ التعدد، حين يُقمع، لا يلبث أن ينفجر، حتى من داخل دول الدين الواحد؟

عن الكاتب

Guest

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

الواقع الإفتراضي