random

منشورات

random
جاري التحميل ...

نهاية القطب الواحد: عالم في بحث عن بوصلة جديدة

 نهاية القطب الواحد: عالم في بحث عن بوصلة جديدة


عالم في بحث عن بوصلة جديدة

في لحظاتٍ فارقة من التاريخ البشري، تبدأ قواعد اللعبة بالاهتزاز. ليست الثوراتُ العسكرية أو الحروب الكبرى وحدها التي تصنع التحوّلات العميقة، بل أحيانًا تكون تلك التحولات نتاجَ ردة فعل صامتة، تراكمية، لا يدركها الكثيرون حتى تصبح واقعًا لا رجعة عنه. العالم الذي عاش تحت ظل قطب واحد لأكثر من ربع قرن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، بدأ اليوم يفقد ذلك الاستقرار الظاهري، ليدخل مرحلةً من التعقيد والتنافسية المتعددة الأبعاد، حيث لم يعد هناك زعيم مطلق، ولا نظام دولي واضح المعالم.

ظهر هذا التحول بوضوح في تقرير مجمع الاستخبارات الوطنية الأمريكية الذي نشر توقعاته حول شكل العالم في عام 2040، والذي يرسم مشهدًا يتسم بالتشابك والتنافس بين كتل تتباين في النفوذ، والنموذج، والتكنولوجيا، والأيديولوجيا. لم يعد الأمر يتعلق فقط بالتوازن العسكري أو الاقتصادي، بل أصبح يدور حول كيف يمكن للدول أن تروّج لنماذج حكمها، وتفرض رؤيتها الخاصة للعالم، في زمن تعاني فيه المؤسسات الدولية من التشلل، ويغيب فيه عن المسرح الدولي أي مرجعية واضحة.

إذا كان القرن العشرين قد شهد ولادة النظام الدولي الحديث عبر محطات كبرى مثل الحربين العالميتين، وتأسيس الأمم المتحدة، فإن القرن الحادي والعشرين يشهد إعادة تشكيله. فالقطبية الأحادية التي سمّاها المفكر الأمريكي تشارلز كراوثامر "اللحظة الأحادية"، والتي بدا فيها أن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة القادرة على توجيه دفة العالم، لم تدم طويلاً. بدأت أولى شقوقها مع الصعود الهادئ للصين، وعودة روسيا إلى المشهد الدولي، ثم مع انزياح واشنطن نفسها عن دورها التقليدي في ظل إدارة دونالد ترامب، لتبدأ مرحلة جديدة من الخطاب والسلوك السياسي، لم تعد فيها القيادة مفهومًا ذا قيمة داخل البيت الأبيض.

لكن ما يثير التأمل هو أن هذه التحولات لم تأتِ فجأة، ولا نتيجة اختراق تقني أو تغير مناخي، بل هي نتيجة تراكمات تاريخية، ومعطيات اقتصادية، وصراعات ثقافية، وأحيانًا هشاشة داخلية في بعض الدول العظمى. فالصين لم تتحول من مجرد "مصنع العالم" إلى قوة استراتيجية شاملة إلا عبر تخطيط استراتيجي طويل الأمد، بدءًا من الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، وصولًا إلى مبادرة "الحزام والطريق" التي تهدف إلى إعادة تشكيل البنية التحتية الاقتصادية للقارات الثلاث. أما روسيا، فقد استعادت مكانتها عبر إعادة تحديد خطوط النفوذ الإقليمية، ليس فقط في جوارها الجغرافي المباشر، بل أيضًا في سوريا وأفريقيا وحتى في الفضاء المعلوماتي.

وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، ظلت أوروبا تبحث عن هوية سياسية مستقلة، رغم تحالفها الطويل مع الولايات المتحدة. فعلى الرغم من أنها بقيت القوة الناعمة التي تمتلك وزنًا اقتصاديًا كبيرًا من خلال اليورو والتجارة، إلا أنها تظل تعاني من غياب القيادة الموحدة، وتناقضات الداخل الأوروبي، التي تجعل من بناء سياسة خارجية موحدة مهمة شاقة. لكن في ظل عدم اليقين العالمي، بدأت أوروبا تعيد النظر في علاقاتها، ليس فقط مع واشنطن، بل أيضاً مع بكين، وموسكو، وحتى مع القوى الصاعدة مثل الهند والبرازيل.

هناك أيضاً قوى غير دولة – الشركات العابرة للحدود، مثل "جوجل" و"أمازون" و"فيسبوك" وغيرها – التي أصبح لها وزن في توجيه السياسات العامة، وإدارة بيانات تفوق ما تملكه كثير من الدول، وهو ما يفتح بابًا جديدًا من النقاش حول مستقبل السيادة الوطنية، ومكانة الدولة في النظام الدولي. هل يمكن لنظام عالمي أن يستمر دون تمثيل رسمي لهذه الجهات؟ أم أن المستقبل يحمل لنا توازنًا جديدًا بين السلطات السياسية والسلطات الرقمية؟

التحول الحقيقي بدأ عندما بدأت القوة الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في التشكيك في مفهوم القيادة ذاتها. فلم يقتصر الأمر على الانسحاب من الاتفاقات الدولية، بل تعدّاه إلى إعادة تعريف العلاقات مع الحلفاء، وتحويلها من شراكات قائمة على القيم إلى صفقات تُحسب بالربح والخسارة. هذا السلوك، وإن كان مفتوحًا ومباشرًا في عهد ترامب، فإنه لم يأتِ من فراغ، بل كان امتدادًا لسياسات سابقة، سواء في الحروب العبثية التي بدأت في أفغانستان والعراق، أو في الحرب الأوكرانية التي أصبحت "ثقبًا أسود" يمتص الموارد الأمريكية دون أن ينتج عنها انتصارًا دبلوماسيًا أو استراتيجيًا حقيقيًا.

ما يجعل هذا المشهد أكثر تعقيدًا هو أننا لا نعيش في نظام متعدد الأقطاب مستقر، بل في فترة انتقالية مضطربة، حيث تتقاطع المصالح وتتعارض، وتتغير التحالفات بسرعة، وتغيب الرؤية الواضحة. فالصين تتحدى أمريكا في الاقتصاد والتكنولوجيا، وروسيا تستعيد تأثيرها في الأمن، وأوروبا تحاول التوازن، والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا تشكل كلها لوبيًا اقتصاديًا ودبلوماسيًا جديدًا. والجميع يحاول الآن قراءة الواقع الجديد، بينما لا أحد يملك الخريطة الكاملة له.

هل العالم إذًا أمام نظام جديد يحكمه التعايش التنافسي، حيث لا غالب ولا مغلوب؟ أم أنه سيكون أمام فوضى متعددة الأوجه؟ يبدو أن الجواب لا يكمن في توقعات الحكومات وحدها، بل في قدرة البشرية على إعادة تعريف التعاون، والبحث عن مصالح مشتركة في زمن تنقسم فيه الأرض إلى كتل، وتتناثر فيه الثروات والسلطة بين أيادي متعددة.

نحن لسنا في نهاية التاريخ كما تصور فوكوياما، بل في بداية فصل جديد منه. فصلٌ لا يطمئن، لكنه يمنحنا فرصة لإعادة التفكير في مفاهيم كانت تُعتبر راسخة، كالسيادة، والقيادة، والنظام الدولي نفسه. ربما لن يكون العالم القادم أكثر عدالة، لكنه سيكون بلا شك أكثر تعقيدًا، وأقرب إلى الواقع الإنساني، بعيدًا عن الأوهام القطبية.

عن الكاتب

Guest

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

الواقع الإفتراضي